الحرية وموقعها في الطبيعة

هنادي ابو وادي
هنادي ابو وادي يوليو 11, 2021
Updated 2022/05/15 at 8:07 صباحًا

الحرية وموقعها في الطبيعة

 

(1) هل الحرية قوة سببية؟

لعلنا عالجنا الآن مشكلة الممارسة؛ ولم نعد نفهم الفعل من منطلق مهدِّد للحرية الليبرتارية، بوصفه نتيجة لرغبات تعترينا دون تفكير. فيمكن للفعل أن يتخذ شكلًا غير سببي تمامًا. ويمكن للفعل أن يحدث كقرار غير مسبب، دون أن تتأثر طبيعته من حيث كونه فعلًا أصيلًا ومتعمدًا. ولكن تظل مشكلة العشوائية قائمة.وعلينا أن نظهر أن الليبرتاريين يمكنهم التمييز بين الحرية غير المحددة سببيًّا وعمل الصدفة البحتة، وكيف أن الليبرتاريين بالرغم من ربطهم الحرية بغياب التحديد بفعل أحداث سابقة فإنهم في الوقت ذاته لا يربطونها بالعشوائية.

*التشكيكية والليبرتارية

تذكَّرْ أنه وفقًا لمذهب التشككية، فإن الحرية الليبرتارية لا تعدو كونها عشوائية. لذا لا يوجد سوى بديلين؛ فإما أن يكون الفعل محددًا سببيًّا بشكل مسبق — الأمر الذي يصر الليبرتاريون أنه سيُقصي الحرية — وإما أن حدوث الفعل لم يحدد مسبقًا، وأنه يجب أن يحدث بمحض الصدفة. في هذه الحالة، سيصر المتشكك على أن الحرية الأصيلة تتعرض للإقصاء مرة أخرى. لا يوجد حل وسط لهذا الأمر.

الحرية إذن هي نوع من القوة التي تحدد وقوع الأحداث. إنها القوة التي تحدد أَحَدَثَ ما سيقع أم لا. إنها قوة خاصة لا يمكن أن يتمتع بها، كما يبدو، سوى الكائنات العاقلة مثلنا نحن البشر، ولا يمكن ممارستها إلا من خلال الفعل: من خلال طريقة تصرفنا. فالحرية قوة تحدد الأفعال التي نؤديها. ويطرأ سؤال هنا: كيف تتصل هذه القوة بقوى الطبيعة الأخرى؟

من المغري أن نفترض أن العلاقة بين الحرية والسببية يمكن أن تكون أقرب من هذا. ربما لا يمكن بسط نطاق الحرية من خلال السببية فقط، بل ربما الحرية ما هي إلا نوع من السببية. في هذه الحالة، تشتمل ممارسة الحرية منذ البداية على خلق التأثيرات. فأي حدث نتحكم به يجب أن يحدث كتأثير تسبَّبْنا فيه. الأمر الذي يعني أنه لن يوجد سوى قوة واحدة في العالم محددة للحدث، لا اثنتين. لن يكون هناك سوى قوة سببية، ولن تعدو الحريةُ الإنسانية أن تكون سوى صورة أخرى لها.

*خيارات

يبدو هذا الخيار أكثر جاذبية عندما نفكر في جميع الصعوبات والشكوك التي تطرحها فكرة الحرية. فهل من طريقة للتعامل مع هذه الشكوك والصعوبات أفضل من الانتهاء إلى أن الحرية ما هي إلا نفس القوة المألوفة مثل قدرة الحجارة على كسر النوافذ، أو قدرة النار على غلي الماء؟

ولكن إذا أجرينا هذه المطابقة، فسوف تتبعها المعادلة التي تضم غياب التحديد السببي مع الاعتماد على الصدفة البحتة أو العشوائية. إذ إن الصدفة البحتة أو العشوائية ما هي إلا غياب تام للتحديد السببي.وهذا بالتحديد ما يترك حدوثها الأخير، غير المحدد سببيًّا وغير المتحكم به في الواقع، معتمدًا على الصدفة البحتة والعشوائية.

هناك حد واضح للبساطة في الطبيعة. فيجب أن يكون هناك اختلافات جوهرية، وإلا فسيكون كل شيء متطابقًا؛ الأمر الذي يتكشف بجلاء أنه لا يعبر عن الواقع. وإن إبراز الاختلافات بحيادية له القدر نفسه من الأهمية مثل إيضاح التشابهات. إننا لا نستطيع أن نفسر بنجاحٍ أي شيء من خلال الإصرار الدوجماتي على أن الأمور الواضح اختلافها ما هي في الواقع إلا الشيء الواحد نفسه. وقضية قوة الحرية والقوة السببية مثال وثيق الصلة على هذا؛ فهاتان القوتان تبدوان مختلفتين تمامًا، وربما كان هذا لا لسبب إلا لأنهما متباينتان حقًّا.

*تحليل مقترحات

أحد الخيارات هو «الاستبعاد» الطبيعي، وهذا الخيار هو إنكار وجود أمور مثل الوعي والفهم والعقلانية والحرية. ولكن الخيار الثاني الأكثر فطنة هو «الاختزال» الطبيعي، وهو الخيار الذي يعترف بوجود كلٍّ من الوعي والفهم والعقلانية والحرية، ولكنه يجعل من كلٍّ منها ما لا يتعدى مجرد حالة خاصة من سمة ما أخرى من المفترض أن تكون أقل إشكالية موجودة في الطبيعة بصورتها الأكبر. إننا نحاول أن نصف جميع هذه الأمور من منطلق آخر؛ منطلق مستعار من الطبيعة بصورتها الأكبر وليس معادلًا مفرط البساطة للظاهرة التي نحاول وصفها. وفي حالة الحرية ستكون الفرضية كالتالي: إن الحرية لا تعدو كونها نوعًا من القوة السببية.

(2) الطبيعية التوافقية والقوة السببية

woman jumping on green mountains
Photo by Peter Conlan on Unsplash

كان للتفسيرات الاختزالية للحرية بوصفها نوعًا من القوة السببية منشأ؛ إذ يعود منشؤُها إلى إرث هوبز. كان التوافقيون المتبعون لهذا النوع من الطبيعية ميالين بشكل خاص إلى وصف كنْهِ الحرية من منطلق آخر، ويرون الحرية باعتبارها لا تزيد عن كونها نوعًا من السببية. وادَّعى هؤلاء التوافقيون أن الحرية — السيطرة التي نملكها على أفعالنا — هي قوة سببية لرغباتنا. فأصبح الأمر مغريًا للغاية أن نختزل الحرية، القوة التي نملكها للسيطرة على أفعالنا، بحيث لا تتعدى كونها القوة السببية لرغباتنا وشهواتنا التي تنجح في تحريكنا، كما لو كنَّا دُمًى، لفعل ما تدفعنا للقيام به. لماذا لا ينبغي أن تئول الحرية إلى مجرد هذه القوة السببية؟

ولا يمكن للحرية، التي تمثل قوة تحكمنا في أفعالنا، أن تتحدد منطقيًّا على أنها قوة سببية للرغبات السابقة أو غيرها من الدوافع السلبية لتحديد كيفية تصرفنا. وهذا بسبب أننا قادرون على استخدام أفعالنا بشكل متعمد، الأفعال ذاتها التي نمارس حريتنا من خلالها، لكي نكبح رغباتنا. إذا كانت الحرية قوة سببية بأي حال من الأحوال، فلا بد أنها قوة سببية من نوع آخر.

(3) الليبرتارية والحرية بوصفها قوة سببية

لا شك في أن الليبرتاريين لن يعرِّفوا الحرية أبدًا على أنها قوة سببية لرغباتنا أو غيرها من الدوافع التي تعترينا دون تفكير لتحديد كيفية تصرفنا. وهناك سبب واضح للغاية لهذا. فلما كانت مثل هذه القوة السببية أمرًا يمكن — عندما يتخذ صورة قوية بدرجة كافية — أن يُقصي الليبرتارية من أساسها، فيجب أن تكون تلك القوة والحرية الليبرتارية أمرين مختلفين تمامًا. بالنسبة لليبرتاريين، يكون تأثير القوة السببية لأي حدث أو موقف سابق على كيفية تصرفنا تهديدًا محتملًا لحريتنا. لذا لا يمكن أبدًا مطابقة الحرية مع هذه القوة السببية.

إلا أن الكثير من الليبرتاريين قلقون من أنه إن لم تكن الحرية شكلًا من أشكال القوة السببية، فلن يكون هناك شكل آخر تتخذه الحرية؛ إذ إن الفعل غير المحدد سببيًّا لن يتم تحديده أو السيطرة عليه بأية طريقة أخرى. فلن يكون سوى فعل عشوائي. لذا سعى هؤلاء الليبرتاريون أيضًا إلى تعريف الحرية الليبرتارية على أنها قوة سببية، ولكنها قوة سببية من نوع مختلف.

هناك نوع آخر وحيد من القوة السببية يمكن أن تتخذه حريتنا، ليس قوةً سببية لأي حدث أو موقف سابق، ولا حتى حدثًا أو موقفًا مسبقًا في عقولنا؛ مثل الرغبات أو المشاعر. بل يجب أن تكون بدلًا من هذا قوة سببية متعلقة بنا ونمارسها نحن أنفسنا بشكل مباشر. النظرية التي ترتكن إلى المصطلح الذي أطلقه الفلاسفة «سببية الفاعل». يُفترض أن الحرية قوة سببية خاصة مزدوجة مسيطرة على الأفعال، قوة سببية نمتلكها ونمارسها، ولكن ليس بواسطة حدث غير حر بل بواسطة الفاعلين الأحرار أنفسهم. ويُفترض أن تكون حرية الشخص قوة سببية يحدثها.

لذا عندما يحدث فعل ما، الفعل (أ)، من خلال ممارسة الفاعلِ حريتَه، فإن الفاعل ذاته يعمل كسبب، ولا يقوم أي حدث أو موقف، ولا أية رغبة أو دافع، بالتحديد السببي لكون الفاعل سيؤدي الفعل (أ) من عدمه، بل الفاعل نفسه هو من يحدد ذلك سببيًّا.

 

* توضيح

الفاعل-المسبب يعمل الفاعل بشكل حر كسبب محدد لوقوع الفعل (أ) لا عدم وقوعه
التأثير الفعل (أ) تم أداؤه

إن وقوع الفعل (أ) ليس عشوائيًّا؛ لأنه قد تم تحديده سببيًّا. ولكن سيظل حدوثه ممارسة لسيطرة الفاعل على الفعل لأنه قد تم تحديده، ليس بسبب خارج عن إرادة الفاعل، بل بواسطة الفاعل ذاته، بوصفه سببًا مؤثرًا بشكل حر.؟

 

تذكرْ أن نظرية الفاعل-المسبِّب عن الحرية يُفترض بها أن تؤدي وظيفتين. فمن المفترض أن تمنح الحرية مكانًا وهوية مقنعَينِ داخل الطبيعة بصورتها الأكبر؛ أي من المفترض أن تؤكد لنا مجددًا أن المصطلح ما هو إلا مجرد حالة من شيء مألوف للغاية، السببية. ومن المفترض أيضًا أن تحل مشكلة العشوائية، من خلال بيان كيف أن ممارسة حرية الليبرتاريين مختلفة عن العشوائية. وأرى أن النظرية لم تؤدِّ أيًّا من هاتين الوظيفتين.

في الحقيقة، يمكن ممارسة القوة السببية العادية في بعض الأحيان بأكثر من طريقة. قد يكون السبب العادي احتماليًّا في أساسه؛ إذ قد يكون نتاجًا للصدفة في جوهره، ليس فقط من ناحية ما إن كان سينتج تأثيرًا أم لا، بل من حيث أي تأثير يحدثه. فمن ناحية، ولكن حتى وإن كان هذا الأمر صحيحًا، فلا شك في أن هذا الأمر لا يترك لنا سببًا عاديًّا يتحكم في أي تأثير سيحدثه.

النتيجة واضحة. فبسبب عمل كل من القوتين، الحرية والسببية العادية، على تحديد النتائج وإقصاء العشوائية بطرق مختلفة جدًّا. يمكنك أن تطلق على قوة الحرية أنها «سببية» هي الأخرى، إن أردت ذلك، إذ إنها لا تزيد من فهمنا لكيفية أن ممارسة الحرية تمنع أن تكون النتيجة النهائية من جراء الصدفة البحتة.

 

(4) الليبرتاريين دون اختزال

نستنتج إذن أن الحرية ليست قوة سببية. إن ممارستي المبدئية للسيطرة على أفعالي — على سبيل المثال، على قرار أتخذه — لا تتضمن أن يحدث الفعل كتأثير، سواء من دوافعي أو من نفسي كفاعل-مسبب.

سأعرض فيما يلي تشبيهًا لهذا الأمر. فكِّرْ على سبيل المثال في أنني الدائن الذي يمتلك القدرة على إعفائك من دينك لي. عندما أعلن وأقول: «إني أعفيك من الدين»، فإني لا أمارس قدرتي على إعفائك من الدين لأتسبب في هذا الإعلان؛ إذ إن هذا الإعلان لم يقع بوصفه تأثيرًا أحدثته قدرتي على إعفائك من الدين، ولكنه يشكِّل ممارسة لهذه القدرة. إن الإعلان هو الوسيلة التي من خلالها تتم ممارسة هذه القدرة. وكذلك الحال مع الفعل وممارسة الحرية، فالفعل هو الوسيلة أو الوسيط الذي نمارس من خلاله الحرية، لا تأثيرها.

ولا شك في أن الحرية تشتمل على ما هو أكثر من مجرد العقلانية العملية، وجميعنا يعرف ماهيتها؛ إنها السمة المميِّزة المتمثلة في أيلولة أفعالنا إلينا؛ تمتُّعنا بالسيطرة عليها. ومثل الأمور الكثيرة جدًّا الأخرى في رؤيتنا للعقل — مثل كونه واعيًا، يفهم شيئًا، عقلانيًّا في حد ذاته — لا يمكننا أن نحدد بشكل وافٍ جميع ما تكتنفه هذه السيطرة، أو بتعبير آخر جميع ما تتضمنه هذه الأيلولة. إنها ليست مجرد قدرة على التصرف بشكل غير محدد، وليست أيضًا قدرة على التصرف بعقلانية، وليست  نوعًا من القوة السببية. بل إنها ليست قوة سببية على الإطلاق. إن حريتنا هي ما هي عليه، بوصفها قوة، لا شيئًا آخر.

(5) دفاعًا عن حرية الليبرتاريين

إن حجة التشككية التي تعارض تماسك وإمكانية الحرية الليبرتارية أقل قوة بكثير مما ظهرت عليه للوهلة الأولى. في حقيقة الأمر، تبدو الآن أنها تسلم تسليمًا بفرضيات لم تثبت صحتها بعد. وقد أصبح هذا الأمر واضحًا الآن بعدما كشفنا النقاب عن مكان وجود جذور تلك التشككية.  إذ إن جزءًا من جذورها يكمن في الرسم الكاريكاتوري الذي رسمه هوبز للفعل البشري. الرسم الكاريكاتوري الذي يختزل الفعل ليكون مجرد تأثير مفروض علينا بواسطة رغباتنا. والذي ينتزع من التقرير الذاتي البشري اتخاذَ القرار الذي من خلاله تجري ممارسة التقرير الذاتي بشكل رئيسي ومبدئي. وتكمن أيضًا في الانتزاع الدوجماتي للحرية المنكَرة ذاتها من البداية، سواء من العالم أو حتى من خبرتنا وفهمنا للعالم.

(6) رؤية الليبرتاريين

ليست هذه رؤية جذابة للخبرة. ولكن كيف يمكن مقاومتها؟ أعتقد أن الطريقة الوحيدة هي الاحتكام إلى الإرشاد الذي تقدمه الخبرة فعليًّا إلى معتقداتنا. فإذا كانت الخبرات ترشد معتقداتنا على نحو معتاد وطبيعي بشأن ما إن كان هناك شيء من الأشياء أم لا ومتى يمكن العثور عليه. فإن الخبرة يجب أن تمثل هذا الشيء وموقفه بالنسبة لنا. فكيف يمكن أن نحدد ما تمثله الخبرة عن العالم، إذا لم يكن من خلال الإشارة لتأثيرها الطبيعي على معتقداتنا عما يحتويه العالم؟

 

عند الجدال مع زميل ساخط صعب المراس، فإني أرفع صوتي، وأتعمد الحديث بطريقة جارحة  ثم، وبزيادة غضبي، أنهي الجدل بإهانة شديدة مقصودة. أشعر بنفسي وأنا أقوم بكل هذه الأفعال؛ وأشعر بأن سيطرتي على ما أفعل تقل تدريجيًّا أثناء قيامي بهذا. قد أشعر بأني «أفقد السيطرة». وبينما أمُرُّ بخبرة أفعالي، أشعر بأن غضبي هو الذي يحدد أسلوب تصرفي بوتيرة متزايدة، وليس أنا. من يمكنه أن يقول إن خبرتي بفاعليتي لا تمثل كل ما حدث لي؟ إن خبرتي هي تلك الخبرة التي تقود الأشخاص الذين يمرون بها إلى الاعتقاد بأنهم يفقدون السيطرة. إنها الخبرة التي نقول عنها إنها «الشعور بأن المرء يفقد السيطرة».

إننا نتشارك في فكرة منتشرة عن الحرية؛ الحرية أو السيطرة على ما نفعل كما نفهمها بشكل طبيعي من منطلق ليبرتاري. إنها فكرة تمثل عنصرًا كبيرًا وحيويًّا في خبرتنا عن أنفسنا وعن العالم وهي فكرة مختلفة تمامًا عن القوة السببية. لذا لماذا نحاول تحويل قوة إلى قوة أخرى؟ ولماذا نتشكك اختياريًّا في قوة دون القوة الأخرى؟

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *